logo

قصة قصيرة بعنوان ‘حكاية لم تروَ كاملة‘ - بقلم: الكاتبة اسماء الياس من البعنة

15-06-2025 12:57:53 اخر تحديث: 15-06-2025 13:24:35

في قصر جميل، تتلألأ جدرانه بضوء الشمس الذهبي كل صباح، كانت تعيش غيداء، الأم التي تجسدت فيها كل معاني الحنان والقوة. لم يكن قصرها مجرد بناء فخم، بل كان مملكة صغيرة تعجّ بالحياة، بضحكات بناتها الأربع:

اسماء الياس - صورة شخصية

شيماء، هيفاء، سناء، ورغد. كل زاوية فيه كانت تحمل بصمة إحدى بناتها، من رسومات هيفاء الملونة على الجدران، إلى القصص الخيالية التي كانت سناء ترددها في أرجاء الردهات، وضحكات رغد المدللة التي كانت تملأ الأجواء، وحكمة شيماء الكبرى التي كانت تعكس نضجًا يفوق عمرها.

كان صباحًا كأي صباح آخر، يتسلل الدفء عبر النوافذ الزجاجية الكبيرة، ويوقظ رائحة القهوة التي تعدها غيداء الحواس. في المطبخ الواسع، كانت البنات يتجمعن حول طاولة الإفطار، تتناثر عليهن خيوط الشمس الذهبية. غيداء، بابتسامتها الهادئة، كانت توزع الأطباق وتستمع إلى أحاديثهن المتشابكة؛ شيماء تتحدث عن دراستها الجامعية، هيفاء عن لوحتها الجديدة، سناء عن أمنيتها بزيارة البحر، ورغد الصغيرة تصر على إطعام قطتها المدللة.

كان القصر حصنهن، ملاذهن، ومصدر أمانهن. كانت غيداء قد عملت بجد لتوفر لهن هذه الحياة المرفهة، وهذا لم يكن مجرد رفاهية، بل كان وعدًا بمستقبل مشرق، بفرص لا نهاية لها. كانت ترى في عيون بناتها الأربع كل أحلامها تتحقق، وكل آمالها تتجسد. لم تكن تعلم أن هذا الصباح الهادئ، هذه اللحظات العادية المليئة بالحب والضحكات، ستصبح قريبًا جزءًا من حكاية لم تُروَ كاملة.

ولكن، في هذا الصباح الذي بدا عاديًا جدًا، تسلل صوت غريب عبر جدران القصر السميكة. صوت خافت في البداية، كأنه طنين بعيد، ثم ازداد وضوحًا ليصبح قصفًا مدويًا. كان الصوت قادمًا من بعيد، لكنه كان كافيًا ليزرع قلقًا خفيفًا في قلوبهن. توقفت رغد عن مداعبة قطتها، وتجمدت سناء عن حكايتها، ونظرت هيفاء إلى أمها بوجل. شيماء، الأكبر والأكثر إدراكًا، تلاقت عيناها بعيني غيداء، التي كانت قد شدّت قبضتها على كوب القهوة. لم تكن هذه الأصوات غريبة تمامًا عليهن في الأيام الأخيرة، فقد صارت تتسلل أحيانًا، كضيوف ثقيلين لا يرغبون في المغادرة. كانت غيداء تحاول طمأنة بناتها بابتسامة خافتة، بينما كان قلبها يدق بعنف، صدى لكل قذيفة بعيدة.

مع كل دوي، كانت غيداء تشعر بارتفاع منسوب الخطر. أبعدت الأطباق المتبقية بهدوء وقالت بصوت حاولت أن تجعله ثابتًا: "هيا يا حبيباتي، لنذهب إلى القبو قليلاً. الجو بالخارج أصبح صاخبًا." لم تكن تريد أن تثير ذعرهن، لكنها كانت تعرف أن الانتظار ليس خيارًا. أمسكت بيد رغد الصغيرة التي تشبثت بعباءة أمها، بينما قادت شيماء أخواتها الأقل خوفًا نحو الدرج المؤدي إلى أسفل. القبو، الذي كان في الأيام العادية مجرد مخزن قديم، تحوّل إلى ملجأهن المؤقت، بقعة الأمان الوحيدة التي يمكن أن يلجأن إليها حين تهتز الأرض من حولهن.

في القبو، حيث لا تصل أشعة الشمس، خيّم صمت ثقيل لم يقطعه سوى أنفاسهن المتسارعة. احتضنت غيداء بناتها الأربع بقوة، ضمتهن إليها كأنها تحاول أن تحميهن بجسدها من العالم الخارجي المتوحش. لكن الصمت لم يدم طويلاً. بدأ صوت القصف يقترب، أكثر فأكثر، كل دوي يليه ارتجاج في جدران القبو الترابية. كانت الأصوات الآن ليست مجرد أصداء بعيدة، بل كانت اهتزازات محسوسة، تتسلل من الأرض والأسقف، وتُحدث رنينًا مرعبًا في كل زاوية. اختفت ابتسامة غيداء الواهنة، وحل محلها تعبير صارم وقلق عميق. أمسكت بوجوه بناتها واحدة تلو الأخرى، تمرر أصابعها على خدودهن الباردة، وكأنها تريد أن تودع كل لمسة فيهن قبل أن يختفي كل شيء. رغد الصغيرة بدأت تبكي بخفوت، وسناء تشبثت بأختها هيفاء، بينما شيماء، رغم خوفها الواضح، حاولت أن تظل قوية من أجل والدتها وأخواتها الصغيرات.

وفجأة، قبل أن يتمكن أي منهن من التفوه بكلمة، أو حتى إغماض الأعين، انفجر دوي هائل هزّ القبو بعنف لا يوصف. لم يكن مجرد صوت، بل كان ارتجاجًا أرضيًا، زلزالًا لحظيًا ابتلع المكان. اهتزت الجدران السميكة بعنف شديد، وتصدعت الأرض تحت أقدامهن. لم يكن الأمر مقتصرًا على قصرهن فقط، بل كان الارتجاج يمتد ليزلزل البيوت المجاورة كلها، صاخبًا كالرعد، مدمرًا كالبركان. سقط الغبار والأتربة من السقف، وتلاشت الأضواء الخافتة في القبو. في تلك اللحظة الأخيرة، لم تعد هناك مسافة بين القصف والخوف، فقط صوت الانفجار الذي ابتلع كل شيء، صامتًا صوت الضحكات والأحلام إلى الأبد.

بعد الكارثة: صرخة في وجه الصمت

انقشع الغبار ببطء عن مشهد لم يكن ليُصدق. لم يعد هناك قصر. المكان الذي كان يضج بالحياة والجمال، تحول إلى كومة من الركام والخرسانة المتناثرة والحديد الملتوي. اختفى جمال القصر، وحلت مكانه فجوة هائلة في الأرض، كأنها ندبة قبيحة في قلب الحي. لم يبقَ سوى أجزاء متناثرة من الجدران، وشظايا زجاج لامعة كدموع متجمدة، وقطع أثاث ممزقة، تروي صامتة حكاية ما كان هنا. رائحة البارود والتراب المحترق اختلطت برائحة اليأس التي خنقت الأنفاس.

لم تمر دقائق معدودة حتى بدأ الجيران، الذين نجوا بأعجوبة من الدمار الجزئي الذي لحق بمنازلهم، يتوافدون على المكان. خرجوا من بيوتهم المتصدعة كأشباح، عيونهم تحدق في الفراغ، وجوههم شاحبة وملطخة بالغبار. رأوا القصر الذي طالما أعجبوا بجماله، قد أصبح الآن مجرد أثر لا يدل إلا على الخراب.

كان أول الواصلين عم غيداء، أبو فارس، الذي هرع من منزله القريب بعد أن شعر بالانفجار يهز الأرض تحت قدميه. قلبه كان يخفق بعنف، يحاول أن يرفض ما يراه. صرخ باسم "غيداء!" بصوت مبحوح، اهتزت له أركان الدمار. تبعته زوجته وأبناؤه، وجوههم تعكس مزيجًا من الصدمة والرعب. لم يصدقوا ما تراه أعينهم. كان القصر قد انهار تمامًا فوق قبوة، وكأن الأرض ابتلعته بمن فيه.

بدأ الرجال والشباب، مدفوعين بيأس جامح، يحفرون بأيديهم العارية وسط الركام، يبحثون عن أي بصيص أمل. كان الصمت المطبق على المكان بعد الانفجار، يُقطع الآن بصرخات البحث والنداءات المرتجفة: "غيداء! شيماء! هيفاء! سناء! رغد!" لكن لا رد، سوى صوت سقوط الحجارة وتنهدات اليأس. كان الألم لا يحتمل، فقد أدركوا جميعًا أن الصمت الذي يعم المكان ليس صمت انتظار، بل هو صمت النهاية. كل حجر يرفعونه، كان يكشف عن فراغ أكبر، عن حكاية باتت نهايتها مؤكدة، حكاية لم تُروَ كاملة.

لحن اليأس والبحث المضني

بعد لحظات قليلة، بدأ الأفق البعيد يضيء بوميض أزرق وأحمر متقطع، تزامنًا مع أصوات صفارات سيارات الإسعاف والإطفاء التي شقت الصمت الثقيل. وصلت الفرق المتخصصة، لكن المشهد كان أكبر من أي تدريب أو استعداد. تسارعت حركة الأشخاص، لم يعد الأمر مقتصرًا على الجيران فقط. تجمعت الحشود من كل حدب وصوب، وجوههم مشدودة بالرعب والفضول المحزن. كانت بعض النساء يبكين بصمت، ورجال يهزون رؤوسهم بيأس.

بدأت فرق الإنقاذ عملها في محاولة يائسة للبحث عن ناجين. أصوات الأدوات الثقيلة اختلطت مع صرخات التوجيه والهمهمات المكتومة، لكنها كانت أشبه بمحاولة يائسة لترميم ما لا يمكن ترميمه. كل قطعة ركام تزال كانت تحمل معها خيبة أمل جديدة. رهبة المكان كانت طاغية، فالهواء كان مشبعًا برائحة الموت والدمار، وكل زاوية تروي قصة فاجعة. كانت العيون تحدق في الأرض حيث كان القصر، ثم ترفع إلى السماء وكأنها تسأل: لماذا؟ الخوف من الآتي كان يسيطر على الجميع؛ فإذا حدث هذا هنا، فهل سيحدث في أي مكان آخر؟ هل سينجو أحد؟

لم تُعثر على غيداء ولا بناتها. اختفت أحلامهن وضحكاتهن تحت أطنان من الخرسانة المنهارة، تاركة وراءها فراغًا لا يملؤوه شيء، وحكاية لم تُروَ كاملة، ستظل تطارد ذاكرة من شهدوا النهاية المأساوية لقصر كان يومًا مملكة لغيداء وفراشاتها الأربع.

وسط هذه الفوضى المحزنة، وبمجرد أن بدأ الغبار يتلاشى قليلاً، تعالت الأصوات من بين الحشود المذهولة، كهمس ثم صرخة موحدة، تردد صداها في أرجاء المكان المدمر: "يجب على أحد ما أن يوقف هذه الحرب! كفى دمارًا! كفى قتلًا!" كانت تلك الكلمات تخرج من قلوب موجوعة، من حناجر مخنوقة بالدموع والغضب، تعبر عن شعور مشترك بالعجز واليأس. لم تعد الأصوات مجرد بكاء على عائلة فقُدت، بل تحولت إلى نداء مدوٍ للعالم، للمسؤولين، لكل من يسمع، بأن هذه المأساة يجب أن تتوقف. هذه العائلة، وقصرها الجميل الذي أصبح أطلالاً، لم تكن مجرد أرقام في نشرة أخبار، بل كانت أرواحًا وأحلامًا سُحقت، وشهادة صارخة على وحشية صراع لا يرحم.

خاتمة: نداء للمستقبل

في كل زاوية من هذا العالم، هناك "غيداء" وبناتها الأربع، هناك قصور جميلة قد تتحول في لحظة إلى ركام. هذه ليست مجرد قصة حزينة، بل هي تحذير صارخ. إن لم يتحد العالم سويًا لوقف آلة الحرب المجنونة، وإذا لم ترتفع أصوات السلام فوق ضجيج القنابل، فسنرى فظائع أكثر، ومآسي لا تُحصى، وقصصًا أخرى كثيرة لن تُروى كاملة.